مقالات مصطفى منيغ

لن ينصفك التاريخ ولو اشتغلت في المريخ
بقلم : مصطفى منيغ
الصورة : مصطفى منيغ أواسط الستينيات في مدينة البندقية الايطالية
لا أحد بعد وفاة والدتي الحنون " هيبة " استطاع أن يرغم عيناي على ذرف الدموع بغزارة غير ابنتي وقطعة من روحي حينما أحسست وهي في المطار قاصدة دولة بعيدة ( للالتحاق بزوجها الموظف هناك ، الذي أكن له المودة والتقدير لما يتمتع به من مميزات الرجولة والشهامة وعزة النفس و الدرجة العلمية الرفيعة التي حصل عليها باجتهاده ونباهته وذكائه النبيل ) أنني تركت وحيدا ليزدردني الفراغ رغم انشغالي طول الوقت في مهنة المتاعب مع الناس وللناس في هذا البلد الذي ، ولا شك ، يحيا مرحلة دقيقة في مسيره صوب تكريس التبعية حلا للخروج من مشاكله المثقلة يوما بعد يوم بما يضاف من أخطاء تدبيرية ترتكب عن قصد أو غير قصد ، تؤخر حتى مكانته بين بلاد المعمور،أو اللجوء للقرار الحكيم بفتح حوار نزيه ومسؤول ( لا مع بعض الأحزاب المختارة بسبب معروف، التي أقل ما يقال عنها أنها أصبحت متجاوزة ، تعلق الأمر بأساليب عملها ، أو البرامج التي تقترحها من أجل ربح الساحات السياسية المحلية لأغراض تعرت مضامينها بكل التفاصيل، أو تعلق بما أصبح في شبه المؤكد ارتماءها بكيفية تحد من قيمتها بين ذراعي المتحكمين في ضبط الاختيارات الإستراتيجية ليبقى كل شيء على وتيرة واحدة لا مجال للديمقراطية في توسيع مجالاتها أو اختيار الرؤوس المؤهلة حقيقة في التمكن من انجاز توازن يحافظ على حقوق "هؤلاء" و"هؤلاء" كحد أدنى للتراضي والتوافق المختفيان من خمس أو ست سنوات ماضية .. ولكن ) مع الشعب المغربي العظيم الصبور وبشروط منها كمدخل ، البدء في عمليات الإصلاحات الحقيقية والضرورية القريبة ، والمتوسطة ، والبعيدة المدى . لا نقصد بها الترميمات المشاهد ظهورها في بعض المدن دون أخرى ، بشكل يثير عدة تساؤلات تخص أغلفتها المالية من مصدر والمستوى الوظيفي للآمر بصرفها ، وما يحصر أو ينظم" تلك"و "هذا" من قوانين إن كانت تطبق كما يلزم ذلك العديد من الفصول التي خص بها المشرع المغربي مثل المواضيع . وإنما ترميما للجراح الغائرة في نفسية أعداد لا تحصى من المواطنين المغاربة ، رجالا ونساء ، بما يعيد أولا الثقة بين الحاكمين والمحكومين ، وثانيا وألفا حصول الملايين على حقوقهم الشرعية المشروعة في العمل لربح قوت شريف وإيجاد المستشفى المطابق للمواصفات الدولية ، والمدرسة ببرامج تربط الناشئة بما يصون هويتها الإسلامية المغربية الأمازيغية.
... ربطني الحنين الأبوي بأكثر من خيط منسوج بالود الصافي النقي بابنتي أمال وهي تكبر يوما وراء يوم أمام عقلي و مقلتاي، اسعد وأنا الكبير لسعادتها وهي الصغيرة، أتألم أنا الأب بآلامها وهي الابنة . سعادتي أراها في تلك اللحظات التي كنت ألج فيها البيت وقد أخذ مني العلياء كل مأخذ فأجدها في انتظاري معلنة عن ترحابها بمقدمي على كيفيتها الخاصة التي تنزع مني الضحك مقهقها وهي تبحث بواسطتها عن فرض مكانتها داخل قلبي بحجم يتوسع مع مرور الزمن . كانت تأخذ بأطراف " طاقيتي " وتحاول جاهدة جلبها لتغطي جبهتي بالكامل مستهدفة حجب الرؤية علي بتمديد رقعة الطاقية لتشمل عيناي ، تعيد الكرة إن فشلت غير عابئة برجاء والدتها أن تتركني حتى انهي تناول الطعام أو احتساء كوب من قهوة محضرة على الطريقة الوجدية المعتبرة التي ما رضيت احتساء غيرها على امتداد سنوات طوال من عمري. وآلامي أحس بها عندما افتقدها ولو لنصف يوم ، مهما سافرت ومهما رحلت لا يهدأ لي بال حتى اعلم بواسطة الهاتف أنها بكل خير . حتى أصدقائي كانوا يبادرونني بالسؤال عن أحوالها في أدب جم ليقينهم مدي معزتها ، بل أهمية مكانتها في وجداني كأب يشقى ليجنب أسرته الصغيرة كل خصاص ومن أي نوع كان . هكذا كان دورنا نحن الإباء في المغرب قاطبة، كرامتنا في كرامة بيتنا ومن فيه، وشرفنا هو أيضا من شرف بيتنا وأهلنا داخله. كنا قدرين على تحمل المسؤولية الكاملة لينشأ الطفل المغربي أو الطفلة المغربية النشأة القويمة المشبعة بعزة النفس والذود حتى عن محيطها بما يكفل المحافظة على الأصل النظيف بنظافة أزيد . وحتى هذا اليوم الذي بدد سكونه الحديث الممل عن "الحداثة " و"المعاصرة " و " مبادرة التنمية البشرية " وعناوين ،وشعارات من هذا القبيل لم تجد نجاحا ولا قبولا عند عامة الشعب المغربي العظيم حينما عايشت ( هذه العامة ) " المسخ " وهو يتنقل بلا حياء بين حارات وأزقة بعض المدن المغربية يضيف لمصائب وويلات تتراكم بمرور الدقائق ولا أقول الساعات ، ما يصعب الحل، حتى هذا اليوم إلى الغد بمشيئة الرحمن، نتضرع إلى الباري الحي القيوم ، أن يحفظ الشعب المغربي الأبي الأصيل ، مما يخطط له من نقلة لا هي من شيمه ولا من منهجية تربية أجياله، ومنها الجيل الحالي،الذي ولا شك يقف من يقف فيه،صامدا مناضلا كسد حابس للفساد والمفسدين الزاحفين بمباركة من اختاروا الوقوف جنب أباليس عبدة الجاه الأجوف الجاف ، و الإمكانات المادية الصادرة عن مجون الانحراف . حتى هذا اليوم و قد وصلنا مراحل متقدمة في السن نؤكد إصرارنا في الدفاع عن حقوق المغاربة أينما وجدوا كمغاربة ، رجالا ونساءا ، لا فرق، كامتداد لخمسة عشرة قرنا من الأمجاد والمواقف المشرفة المنقوشة بالفخار والعزة على جبين التاريخ الإنساني العريق ، وكحضور حضاري مشهود له بالإبداع المرافق للاجتهاد المباح شرعا . طبعا ابنتي العزيزة الغالية امال لن تحس بالغربة التي أحسست بها وأنا في مثل سنها مقيم في مدينة البندقية الإيطالية ، لأنني واثق أن اختيارها لشريك حياتها كان اختيارا موفقا أساسه طاعة الله ،وبناء أسرة متماسكة سعيها مع الحلال يضفي عليها هالة من وقار، يتخذ في تلك الديار، قدوة ونموذجا محمودا يعكس حقيقة نبل وشهامة وشجاعة المغاربة الأحرار. 
... أواسط الستينات كنت مقيما في هولندا و تحديدا في مدينة اوطريخت العاصمة العلمية لدولة الأراضي المنخفضة . أتيت إليها من مدينة عريقة أخرى هي بروكسيل ، التي انتقلت إليها من مدينة تاريخية هي باريس . واتيت إلى العاصمة الفرنسية هته من مدريد ... وهكذا هي عشرات الدول التي مشيت فيها مرفوع الرأس ، مصان الهمة معتمدا على خالقي سبحانه ،وقدراتي الذهنية والعلمية في مجال الصحافة والكتابات الأدبية عموما . لم اكتف بالعمل لزمن محدود بل كانت ساعات راحتي قليلة وقليلة جدا . استحضر هنا بضع كلمات واجهني بها صديق الصبا " محمد زوين " الذي جمعني وإياه القدر في تلك الشهور من سنة 1965 في نفس المدينة الهولندية حينما قال لي : الناس متجمعة في حجرات دافئة وأنت لم يمنعك حتى الثلج المتساقط بكثافة عن التجوال في هذا الجو المكفهر القارص بحثا عن تأسيس ما عجزت المؤسسات الرسمية على تأسيسه. بالفعل كان صادقا فالحكومة المغربية آنذاك لم تكن ممثلة بسفير أو قنصل ، كان علينا الالتجاء إلي سفارة المغرب في بروكسيل عاصمة المملكة البلجيكية للحصول على أي شهادة إدارية تخص مصلحة من مصالحنا المشروعة .لكن عكس ما كان يبدو مستحيلا للأخ الزوين أو غيره من الأصدقاء ومعظمهم لا زال على قيد الحياة . فقد استطعت وصديقي الدكتور " باوس "( وكان ساعتها محاميا مستشارا لوزارة العدل الهولندية ) وأيضا بالمجهود الذي بذلته معي الآنسة " لدوين سنبول " التي لا زلت لحد الساعة أكن لها ولأسرتها الاحترام والمودة ، أن أؤسس أول جمعية تهتم بشؤون الجالية المغربية المقيمة بالمملكة الهولندية في التاريخ ، بل ونشر أول مجلة ناطقة باسمها تحت عنوان " الصداقة " ،اعتقد أن مكتبنا الذي تركته في 10 شارع "اود خرارته" لا زال يحتفظ في إحدى خزاناته، بنسخة من العدد الأول للمجلة المذكورة ، وأيضا استطعت أن اسمع مرضانا في المستشفيات صوتنا كمغاربة فارضين بأسلوب حضاري وجودنا في إذاعة "هلبرسم" الهولندية الشهيرة . ولا أخفي بالمناسبة شعوري بالمرارة حينما كنت أسمع أن" فلانا " أسس أول فرع لودادية العمال هناك . كان بوسعي أن أؤكد ومعي كل الأخوة وعلى رأسهم الصديق العزيز " محمي سليمان " الموظف بمصلحة الضمان الاجتماعي حينما عاد بصفة نهائية ليستقر في مدينة الدار البيضاء ،ان كل ادعاء يستثني مجموعة من الأسماء وعلى رأسهم العبد لله ،مصطفى منيغ ، مجرد تظاهر سياسي الغرض منه تسخير التاريخ المرتبط بعرق الجالية المغربية الشريف لمصالح لم تعد تنطلي حيلها على أحد . استرجع كل هذا وابنتي أمال في أرض المهجر، ربما تقرا مثل المعلومات عني لأول مرة فتحس أن الغربة الحقيقية هي غربتي شخصيا في بلد أفنيت في بناء بيت سمعته داخل العديد من الدول أحلى أيام شبابي لأرى اليوم فيه ما إن كتبت بصراحة أكبر عنه لن تجد الوطنيين جميعهم إلا وقد صرخوا بصوت واحد : اللهم هذا منكر . كيف ؟...
كثيرا ما انتبهت إلى تحريف مقصود طال ذكرى الرواد الأوائل من المهاجرين(بعد استقلال المغرب) لديار الغرب ، وخاصة هؤلاء الذين انتهت بهم الرحلة / الحلم ليستقروا إما في هولندا أو بلجيكا . كأن القصد من التحريف ، طمس بصمات ظلت محتفظة بأعمال كبيرة أصاب بها أصحابها هدف تقريب معالم الحضارة المغربية لعموم الشعبين الصديقين في الدولتين المتجاورتين ، تقاوم الجحود والنسيان ،لتصل الذروة في التسابق لشغل مناصب تخص الجالية مؤخرا كرغبة من السلطة لخدمتها خدمة خاصة لا علاقة لها لا بمصالح هذه الجالية و لا هم يحزنون ، وإنما لتركيب إطار في واجهة تعرض (من خلالها) اهتمامات جلب زبناء يبتاعون السراب بعملة مشتقاتها من الصعب الأصعب . وقد قالها الصديق التطواني محمد كلمة لا زالت ترن في أذني حتى الساعة : لن ينصفك التاريخ ولو اشتغلت لصالح بلدك في المريخ . كنت ساعتها ، وثلة من الإخوة الشرفاء نسمع ما يقال عنا في مقاهي أطريخت ، أو بعض المصانع ،أو مقرات عملنا هناك كلما نشر خبر عن حادث ما أحد المعنيين فيه مغربي الجنسية أو عربي عموما . نسمع ونتأثر ، ونجد أنفسنا مشلولين عن حركة نظهر بها أننا من أمة ذات حضارة مشرفة ، فلا نجد غير الصمت والانصراف كل إلى مشاغله تحقيقا لذاك الحلم الذي راودنا قبل الرحيل من المغرب ، المبني على امتلاك حياة أنعم وأطيب من حياتنا داخل أوطاننا أو هكذا تهيأ لنا صراحة . شخصيا لم يكن يرضيني البقاء مطأطأ الرأس كالمغلوب على أمره غير قادر على الرد المؤثر بإظهار وقائع مساعدة وبأساليب متحضرة جد مقنعة أننا عكس أية صورة مغلوطة يريد من يريد إبرازنا بها ، الفاعل الذي عاد بي لليلة من التفكير قضيتها مستيقظا ساعدني عملي كموظف استقبال في نزل "سميس" الشهير التقيد بها ، أن اخرج بفكرة ما كدت انهي عملي ذاك حتى توجهت لمكتب الدكتور "باوس" المحامي المستشار في وزارة العدل الهولندية آنذاك طارحا عليه فكرة تأسيس جمعية تعني بشؤون المهاجرين المغاربة ، مقترحا عليه في نفس الوقت أن تحمل اسم جمعية الصداقة المغربية الهولندية للمهاجرين المغاربة في "أطريخت". لم يستحسن الفكرة فحسب بل هيأ لها (من تلك اللحظة) كل أسباب النجاح بجعل نفسه مشاركا مباشرا في تسيير شؤونها الإدارية بالدرجة الأولى وبهذا لم يمر أسبوعا واحدا إلا والجمعية قد أصبحت واقعا ملموسا ، وملجأ آمنا للإخوة المغاربة الوافدين على تلك المدينة الجميلة، القاصدين خدماتها ، المدينة التي أكن لها شخصيا المحبة والتقدير لأسباب سأصل إلى شرحها مستقبلا. (للمقال صلة)
------------------------------------------------------------------------------
هاجر لينعم بواقع عَكْسَ الآخر
الصورة . مصطفى منيغ أواسط الثمانينات في "أثينا " عاصمة اليونان يتمعن في النسخة من جريدته " الشعب " التي طبعها في تلك الديار الإغريقية باللغة العربية
بقلم / مصطفى منيغ
فقط الرؤية المنقوشة في الوجدان تبقى، تدغدغ الأحاسيس الدفينة داخل ذاكرة تحاول استخراج ما ظل  مختبئا في سلام يَنْعَمُ الخاطر كلما أحببتُ التنزُّهَ على مسير العمر الملآن بما عز وطاب من قطوف حلو المذاق رهيب الهضم بلغة الواقع والعقل . و"القصر الكبير" هذا الشيخ الوقور بأطرافه المغطاة بحارات " باب الوادي " و " الشريعة "  و"المطيمر"، والمرقعة " بالسويقة "  و" سكرينيا "  و " المزيبلة "  و " سيدي بلعباس "  و " القطانين " و " الباريو حارة "  و " دار الدخان "  و " سيدي عيسى ين قاسم " ، و  المرس " ، وعشرا ت الأزقة والساحات البالية الضاربة في أعماق التاريخ ، والقصر الكبير هذا الشيخ الوقور الذي عشقه الإنسان منذ القدم ، مذ عرف حكمة الانتشار في أرض الله الواسعة ، فجاء حتى الإغريق يمشون فوق أجمل منهل يخططون بأسلوبهم الفلسفي ما عرفه " الوادي الجديد " من رسومات وبقايا ما زالت ظاهرة لمن أراد الغوص في الأعماق ، أعماق الأرض بعد اجتياز المياه الطافحة فوقها . لا أدري لما لا زالت تلك الكلمات التي فاه بها ذاك الفقيه الذي تتلمذتُ على يديه في المدرسة الأهلية الحسنية محدثا الأطفال في مثل سني آنذاك عن الإغريق والقصر الكبير ؟. ربما التصقت بأفكاري ولم تبرح حتى كتبت في أجمل بقعة من عاصمة اليونان ' أثينا ' : من هنا مَرَّ رجلٌ ينتسبُ إلى مدينة القصر الكبير ، بل لم أغادر أرض الإغريق حتى احتفظت الخزانة العامة اليونانية باسم القصر الكبير مطبوعا في مجلة موضوعة الآن في إحدى الرفوف المخصصة للصحافة اليونانية وبها مقالاتي باللغة الإغريقية ذاتها .
من مدينة تطوان انطلقنا نحن الثلاثة صهري ، ابن شقيقي يوسف ، والعبد لله . الأول فينا هدفه البحث عن العمل ، والثاني الالتحاق بالمملكة الهولندية حيث له فيها مقام وأهل ، أما أنا فكانت وجهتي الاتصال بدور التوزيع الأوروبية لنشر جريدة كنت أنوي توسيع حضورها في أكبر عدد من الدول شرقاً وغرباً . الأخوين معا لم يكن معهما من المال ما يكفي لتغطية مصاريف الرحلة فتحملتُ وحدي الأعباء وما أثقلها خاصة في بلاد لا رحيم لنا فيها سوى الله العلي القدير ، علمتُ بهذا ونحن في باريس (فرنسا) نقيم في فندق تملكه أسر ة هندية ، حينما حدثني صهري برغبته في العودة إلى المغرب ، فقد أضناه البعاد عن أهله ، و أشقاه فراق من يحب ، وعجبتُ من رجل في مثل سنه وقوة جسده يتمرغ في أرضية الغرفة باكيا وبأعلى صوت طالباً مني تلبية رغبته في الالتحاق بالقصر الكبير وفورا . فكرتُ جدياً في مساعدته، لكن البقية من المال لم تكن كافية لأداء ثمن التذكرة ، وعليه الانتظار حتى أتدبر الأمر ، فلي من المعارف والأصدقاء ما إن احتجتُ منحوني ما أريد ، لكنه اقسم باكيا بالانسحاب فورا . الحقيقة أنه عمد إلى ذلك ، وقد سولت له نفسه أني أخفي المال عنه عمدا ، وهنا تيقنتُ أن الرجل لم يأت بنية البحث عن العمل وإنما للفسحة والاستجمام على حسابي الخاص . فاخترت الخروج من ذاك الفندق رغم قساوة الجو ، وبلوغ المحرار درجة تصطك على إثرها العوارض . لم أجد حيالي وأنا أتجول في الحي القريب من محطة " ليون " غير ولوج مقهى لجزائري تعودنا احتساء أكواب سائل البن الساخن داخلها ، وهناك رأيتُ موقفاً أثر في نفسي وصدمني أيما اصطدام ، بل جعلني استيقظ من غفوة حجبت عقلي ، فيما مضى ، عن حقيقة مرة : الإنسان يضعف أمام أول امتحان يتعرض له حينما يكون مطالبا بالإفصاح عن أهدافه الحقيقية ليس بالكلمات فقط وإنما بالأفعال ، كان صهري سامحه الله، من نوعية لا تدرك أن حبال العلاقات الأسرية الهشة لا تستحمل القفز بعنف وقوة، وأن الإنسان القوي هو المتجلد ساعة الشعور بجدية الموقف ، وأن الرجال بما يحملهم الوفاء من مسؤوليات جسام يسيرون بها حيث السير . لقد رأيتُ بالمقهى صهري وابن شقيقي يتفقان ضدي ومعهما إنسان ثالث وهم ينسحبون أمامي عيونهم جاحظة صوبي ، وكأنني ما ضيعت عليهما مالي ، ولا تحملتُ من أجلهما عناء التخلي عن أشغالي ومشاكلي الشخصية ، ولا تقاسمتُ معهما طعام الأيام الطويلة في بلا د الغربة الذي دفعتُ ثمنه من عرق جبيني . كل هذا تبخر في لحظة ، ولما ؟ ، لأن الشوق كان أقوي من عضلات صهري، الشوق لأزقة القصر الكبير ولا شيء آخر على الإطلاق . لم أستحمل هذا في بداية الأمر، لكن الآن التمسُ الأعذار لنفس الشخص بالرغم مما سببه لي من مضايقات ، وبالرغم مما تفنن في صرده من حكايات فَراً من عدم تحقيق ما وعد به أسرته الصغيرة من الحصول على عمل بإحدى الدول الغربية وجمع ما يؤهله ليصبح في مدينة القصر الكبير صاحب مشاريع كبرى . أسامحه بقلب لم يعرف الحقد على أحد أبدا ، وبعقل لم يخطئ قي حق إي كان من الأسر ة إطلاقا . ألتمسُ الأعذار لنفس الشخص لأني بسببه وقفتُ على حقيقة أخرى : أن ضعف الإنسان ،أمام أول امتحان ، من صنف ما نتحدث في شأنه الآن ،أساسه حب أو كراهية، خير أو شر ، صواب أو خطأ . وموقف صهري معي في باريس كان أساسه حبه الشديد للقصر الكبير ، والخير يتجلى في تمسكه بهذا الحب ، ومع ذلك لم يفكر ساعتها أن الحب يكبر ، يترعرع ، ويستمر بشيء ضروري للغاية ، بالعمل على كسب " اللقمة " التي أحيانا تغيب في هذه المدينة المهمشة عن ظلم لتتواجد في مكان آخر ، والابتعاد عن أشياء نحبها ليس معناه التخلي عنها ، مَن يحب يسعى لإسعاد المحبوب ، وأي سعادة يشعرُ بها القصر الكبير حينما يستقبل بين الفينة والأخرى ، أحد أبنائه وقد أضاف لمعالمه معلمة يسجلها تاريخ المدينة بحروف الفخار والاعتزاز.
لازمني الغضب ساعة ، أنستني صقيع تلك الليلة من شتاء باريس المدينة العريضة الواسعة ، حيث ظلت أفكاري مشوشة لدرجة  لم أستمع أثناءها اصطكاك عوارضي ، و لا حتى الحداء الذي رافق قدماي طوال المشي بلا هدف أو عنوان انتهي إليه ، لم انتبه للصوت المنبعث منه مع كل خطوة أخطوها فوق حيد طريق ممتد امتداد هذا الأسف الصارخة به خلايا وجهي  مُشَكَّلَة بوضوح على قسماته ، أضف على ذلك  حنجرتي التي عمَّها البلل من بقايا قطرات تسلَّلت لداخلها دون استئذان ، مصدرها أمطار غزيرة تجود به علياء ، لم تحجب غيومها الكثيفة استعداد هذا الكيان الإسمنتي الفرنسي الرهيب الذي أرغمه نهر السين أن يتجزأ لنصفين ، ذي البنيات التحتية المهيأة لامتصاص كل السائل الهاطل بكميات لا تُحصى من المليمترات المكعبة في المتر الواحد ، ما دام المُشيِّد لها صاحب ضمير يكتفي براتبه الشهري مهما كَبُر َحجم مسؤوليات المنصب الذي يشغله ، عكس ما تراقصت أمامي من رؤى والشيخ الوقور "القصر الكبير" وقد غطى كل شبر فيه ما يصل ربع الهاطل هنا من غيث ، بل يسبح ساعتئذن في ملايير الأمتار المكعبة من مياه الأمطار المتجمِّعة في فوضى عارمة يأتي  هيجانها على كل دار كَبُرَ شأن أصحابها أم صَغُر ، مهما تصاعدت صيحات استغاثاتهم لا أحد يتدخَّل ، هي أوقات تُذكِّر الناس جميعهم أنهم وجزئيات من القش المتطاير في الهواء سواء ، لا منقذ لهم إلا مع فتور السيل وانحداره عبر خطوط حفرها في عمق الثرى  من سنين تكررت خلالها مثل الفاجعة ، والأهالي حيارى بين إنقاذ أرواحهم من الغرق وقبل ذلك عيالهم من الضياع وبالتالي الأثاث القليل، المبتاع بالعرق السائل، الرابط أحيانا لمتطلبات إنهاء العمل النهار بالليل ، أصحابه ضحوا من أجل اكتسابه عربونا على نجاحهم ، أجل حيارى داخل هذا الحيز المغتصَب ذات يوم من طرف اسبانيين استلقوا على روابيه العارية يتفرجون على "لوس مُورُوس"وهم يتخبطون وسط المستنقعات والوحل في منظر يثير ضحكاتهم ، وحتى بعد الاستقلال تتكرر نفس المآسي ، حالما يغضب هذا الوادي يتجرع السكان المكدسين على مقربة منه مرارة الحنظل بشدة ما يتعرضون إليه من خسائر لا تُطاق تلزم الناجين إعادة اكتساب ما فقدوه بدفع أسوأ حساب ، بصراحة رغم الفضاء من حولي شاسع لن يستطيع إخراجي من ضيق سيطر على حواسي تلك الآونة المحفورة بكل تفاصيلها في ذاكرتي ولم يسعفني سوى الانتقال مع الخيال إلى المدينة التي علمتني كيفية عدم الارتباك وأنا أواجه من يخونني فابتسمت حينما تصور لي الفقيه المرحوم أحمد السوسي الذي تتلمذت على يديه رفقة العشرات من الإخوة والأخوات احتضنتنا معا ثانوية القصر الكبير قبل تحويلناا للمعهد المحمدي ، داخل ثكنة عسكرية ورثتها مدينة القصر الكبير عن المحتلين الأسبان بعدما أضيفت لها بعض الإصلاحات الطفيفة لا غير ، لتلائم مؤسسة تعليمية خلال مرحلة التعليم الثانوي من الستة الأولى لغاية الحصول على شهادة الدروس الثانوية (البروفي) الوضع الجديد ، تشخص الرجل حيالي واقفا على قاعدة ثنائية لنصب تذكاري صغير وُضع بعناية داخل حديقة تتلاعب قطرات المطر بوريقات زهور شديدة الجمال والرونق زُرعت هناك لإدخال الدفء بين جوانح المتمتعين برؤيتها وهي تصارع البقاء صامدة على سيقانها رغم شدة الاصطدام ، وهو يردد : مَا لَكُم تَكَأْكَأْتُم عَلَيََّ كتلكئكم على ذِي جِنَّة ٍ، افْرَنْقِعُوا عَنِّي ، وعندما ينتهي من إلقاء هذه الجملة المأخوذة من تراث قريش يطلبُ من الزميل (أ.ب) أن يعيد تلاوتها من كراسته ، إن نجح في ذلك أهداه 25 سنتيما وهو مبلغ محترم بالنسبة لأطفال مثلنا في تلك المرحلة ، يستطيع مالكه شراء نصف خبزة محشوة بكمية محترمة من لحم سمكة "التونه" المُصَبَّر بكيفية لا تفقده طعمه اللذيذ ، كان الفقيه يعلم مسبقا أن صديقي ذاك لن يجيد قراءة نفس الجملة فتخلى عنه وتوجه صوبي قائلا : حاول يا مصطفى أن تعلِّم صديقك قراءة الشعر مثلك على الطريقة السليمة وتزرع فيه نفس الطموح ولو أنني أعلم أنه لن يصل حيث ستصل أنت بعيدا . أفقتُ من غفوتي على وقع هذه الكلمة لأعاود التفكير في مغزى هذا البعد الذي أوصلني إلى فرنسا وتحديدا لقلبها الكبير باريس لاحيا هذه الأثناء وحيدا وأستنبط من كلام ذاك الفقيه رحمه الله حكمة : ما الفائدة في التطلع لخدمة الآخرين بما هو الحق والاستقامة والدراية بمسؤولية  حسن النية ، إن كان هؤلاء يرغبون في خدمتك بما حصدوه تربية لم تحرمهم ليشبوا ويترعرعوا بلا تعب ، لهم وعليهم يُحتسب ، فالأفضل اختيار ما يُقنع المبادئ المتشبث القرد بها مثلي ، أولها "كل من فوق التراب تراب" ، وثانيها أخذ العلم من منابعه كقمة الصواب، بعدها التجربة كفيلة لترى فيها نفسك فتحترمها . ومع هذا ولأجل هذا قررتُ الوصول لبلاد أرسطو وأفلاطون غير حافل بما سيكون (يُتبع) .  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق